فصل: النَّزَاهَةُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّزَاهَةُ:

هِيَ خُلُوصُ أَلْفَاظِ الْهَاءِ مِنَ الْفُحْشِ حَتَّى يَكُونَ كَمَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَحْسَنِ الْهِجَاء: هُوَ الَّذِي إِذَا أَنْشَدَتْهُ الْعَذْرَاءُ فِي خِدْرِهَا لَا يَقْبُحُ عَلَيْهَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}، ثُمَّ قَالَ: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النُّور: 48، 50]، فَإِنَّ أَلْفَاظَ ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ أَتَتْ مُنَزَّهَةً عَمَّا يَقْبُحُ فِي الْهِجَاءِ مِنَ الْفُحْشِ وَسَائِرِ هِجَاءِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ.

.(الْإِبْدَاع):

الْإِبْدَاعُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة: أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ عَلَى عِدَّةِ ضُرُوبٍ مِنَ الْبَدِيعِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَلَمْ أَرَ فِي الْكَلَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هُودٍ: 44]، فَإِنَّ فِيهَا عِشْرِينَ ضَرْبًا مِنَ الْبَدِيعِ، وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَفْظَةً، وَذَلِكَ:
الْمُنَاسِبَةُ التَّامَّةُ فِي: {ابْلَعِي} وَ{أَقْلِعِي}.
وَالِاسْتِعَارَةُ فِيهِمَا.
وَالطِّبَاقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
وَالْمَجَازُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا سَمَاءُ}، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ: يَا مَطَرَ السَّمَاءِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي: وَغِيضَ الْمَاءُ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَغِيضُ حَتَّى يُقْلِعَ مَطَرُ السَّمَاءِ، وَتَبْلَعَ الْأَرْضُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ عُيُونِ الْمَاءِ، فَيَنْقُصُ الْحَاصِلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ.
وَالْإِرْدَافُ فِي: {وَاسْتَوَتْ}.
وَالتَّمْثِيلُ فِي: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}.
وَالتَّعْلِيلُ؛ فَإِنَّ {غِيضَ الْمَاءُ} عِلَّةُ الِاسْتِوَاءِ.
وَصِحَّةُ التَّقْسِيمِ؛ فَإِنَّهُ اسْتَوْعَبَ فِيهِ أَقْسَامَ الْمَاءِ حَالَةَ نَقْصِهِ؛ إِذْ لَيْسَ إِلَّا احْتِبَاسُ مَاءِ السَّمَاءِ، وَالْمَاءِ النَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ، وَغِيضَ الْمَاءُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا.
وَالِاحْتِرَاسُ فِي الدُّعَاءِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْغَرَقَ لِعُمُومِهِ يَشْمَلُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْهَلَاكَ، فَإِنَّ عَدْلَهُ تَعَالَى يَمْنَعُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ.
وَحُسْنُ النَّسَقِ وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى.
وَالْإِيجَازُ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَصَّ الْقِصَّةَ مُسْتَوْعَبَةً بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ.
وَالتَّسْهِيمُ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى آخِرِهَا.
وَالتَّهْذِيبُ؛ لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهَا مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتِ الْحُسْنِ، كُلُّ لَفْظَةٍ سَهْلَةُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ، عَلَيْهَا رَوْنَقُ الْفَصَاحَةِ مَعَ الْخُلُوِّ مِنَ الْبَشَاعَةِ وَعَقَادَةِ التَّرْكِيبِ، وَحُسْنُ الْبَيَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّامِعَ لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ.
وَالتَّمْكِينُ؛ لِأَنَّ الْفَاصِلَةَ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَحَلِّهَا، مُطَمْئِنَةٌ فِي مَكَانِهَا، غَيْرُ قَلِقَةٍ وَلَا مُسْتَدْعَاةٍ.
وَالِانْسِجَامُ.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ.
قُلْتُ: فِيهَا أَيْضًا الِاعْتِرَاضُ.

.النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي فَوَاصِلِ الْآيِ:

الْفَاصِلَةُ: كَلِمَةٌ آخِرَ الْآيَةِ كَقَافِيَةِ الشِّعْرِ وَقَرِينَةِ السَّجْعِ.
وَقَالَ الدَّانِيُّ: كَلِمَةٌ آخِرَ الْجُمْلَةِ.
قَالَ الْجَعْبَرِيُّ: وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْطَلَحِ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي تَمْثِيلِ سِيبَوَيْهِ بِـ: {يَوْمَ يَأْتِ} [هُودٍ: 105]، وَ{مَا كُنَّا نَبْغِ} [الْكَهْف: 64]، وَلَيْسَا رَأْسَ آيٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْفَوَاصِلُ تَعْرِيفُهَا اللُّغَوِيَّةُ لَا الصِّنَاعِيَّةُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الْفَوَاصِلُ حُرُوفٌ مُتَشَاكِلَةٌ فِي الْمَقَاطِعِ يَقَعُ بِهَا إِفْهَامُ الْمَعَانِي.
وَفَرَّقَ الدَّانِيُّ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ وَرُءُوسِ الْآيِ، الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الْفَاصِلَةُ هِيَ الْكَلَامُ الْمُنْفَصِلُ عَمَّا بَعْدَهُ، وَالْكَلَامُ الْمُنْفَصِلُ قَدْ يَكُونُ رَأْسَ آيَةٍ وَغَيْرَ رَأْسٍ، وَكَذَلِكَ الْفَوَاصِلُ يَكُنَّ رُءُوسَ آيٍ وَغَيْرَهَا، وَكُلُّ رَأْسِ آيَةٍ فَاصِلَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَاصِلَةٍ رَأْسَ آيَةٍ.
قَالَ: وَلِأَجْلِ كَوْنِ مَعْنَى الْفَاصِلَةِ هَذَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي تَمْثِيلِ الْقَوَافِي: {يَوْمَ يَأْتِ} وَ{مَا كُنَّا نَبْغِ}، وَلَيْسَا رَأْسَ آيَتَيْنِ بِإِجْمَاعٍ، مَعَ: {إِذَا يَسْرِ} [الْفَجْر: 4]، وَهُوَ رَأْسُ آيَةٍ بِاتِّفَاقٍ.
وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: لِمَعْرِفَةِ الْفَوَاصِلِ فِي الْقُرْآنِ طَرِيقَان: تَوْقِيفِيٌّ وَقِيَاسِيٌّ.
أَمَّا التَّوْقِيفِيُّ: فَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ دَائِمًا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ فَاصِلَةٌ، وَمَا وَصَلَهُ دَائِمًا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاصِلَةٍ، وَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ مَرَّةً وَوَصَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى احْتَمَلَ الْوَقْفُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْرِيفِ الْفَاصِلَةِ، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْوَقْفِ التَّامِّ، أَوْ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَالْوَصْلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاصِلَةٍ أَوْ فَاصِلَةً وَصَلَهَا لِتَقَدُّمِ تَعْرِيفِهَا.
وَأَمَّا الْقِيَاسِيُّ: مَا أُلْحِقَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ لِمُنَاسِبٍ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ مَحَلُّ فَصْلٍ أَوْ وَصْلٍ وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ جَائِزٌ، وَوَصْلُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ جَائِزٌ فَاحْتَاجَ الْقِيَاسُ إِلَى طَرِيقٍ تَعْرِفُهُ، فَنَقُولُ: فَاصِلَةُ الْآيَةِ كَقَرِينَةِ السَّجْعَةِ فِي النَّثْرِ وَقَافِيَةِ الْبَيْتِ فِي الشِّعْرِ، وَمَا يُذْكَرُ مِنْ عُيُوبِ الْقَافِيَةِ- مِنَ اخْتِلَافِ الْحَرَكَةِ وَالْإِشْبَاعِ وَالتَّوْجِيهِ- فَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْفَاصِلَةِ، وَجَازَ الِانْتِقَالُ فِي الْفَاصِلَةِ وَالْقَرِينَةِ وَقَافِيَةِ الْأُرْجُوزَةِ مِنْ نَوْعٍ إِلَى آخَرَ، بِخِلَافِ قَافِيَةِ الْقَصِيدَةِ.
وَمِنْ ثَمَّ تَرَى: {يَرْجِعُونَ} مَعَ: {عَلِيمٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 72، 73]، وَ{الْمِيعَادَ} مَعَ {الثَّوَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 194، 195]، وَ{الطَّارِقِ} مَعَ {الثَّاقِبُ} [الطَّارِق: 1، 3].
وَالْأَصْلُ فِي الْفَاصِلَةِ وَالْقَرِينَةِ الْمُتَجَرِّدَةِ فِي الْآيَةِ وَالسَّجْعَةِ الْمُسَاوَاةُ، وَمِنْ ثَمَّ أَجْمَعَ الْعَادُّونَ عَلَى تَرْكِ عَدّ: {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النِّسَاء: 133]، {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} فِي النِّسَاءِ [172]، {كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} بِـ: {سُبْحَانَ} [الْإِسْرَاء: 59]، وَ{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} بِمَرْيَمَ [97]، وَ{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بِـ: (طه) [113]، وَ{مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلَاق: 11]، {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بِالطَّلَاقِ [12]، حَيْثُ لَمْ يُشَاكِلْ طَرَفَيْهِ.
وَعَلَى تَرْكِ عَدّ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} بِآلِ عِمْرَانَ [83]، وَ{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} بِالْمَائِدَةِ [50]، وَعَدُّوا نَظَائِرَهَا لِلْمُنَاسَبَةِ، نَحْوَ: {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} بِآلِ عِمْرَانَ [190]، وَ{عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بِالْكَهْفِ [15]، وَ{السَّلْوَى} بِـ: (طه) [80].
وَقَالَ غَيْرُهُ: تَقَعُ الْفَاصِلَةُ عِنْدَ الِاسْتِرَاحَةِ بِالْخِطَابِ لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ بِهَا، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي يُبَايِنُ الْقُرْآنُ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ، وَتُسَمَّى فَوَاصِلَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عِنْدَهُ الْكَلَامَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ فُصِلَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا، وَأَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فُصِّلَتْ: 3].
وَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهَا قَوَافِيَ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَلَبَ عَنْهُ اسْمَ الشِّعْرِ وَجَبَ سَلْبُ الْقَافِيَةِ عَنْهُ أَيْضًا لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَخَاصَّةً فِي الِاصْطِلَاحِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الْقَافِيَةِ فَى آيَاتِ الْقُرْآنِ فِيهِ يَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الْفَاصِلَةِ فِي الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَتَعَدَّاهُ.
وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ؟ خِلَافٌ؛ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ سَجْعِ الطَّيْرِ، فَشَرُفَ الْقُرْآنُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِشَيْءٍ مِنْهُ لَفْظٌ أَصْلُهُ مُهْمَلٌ، وَلِأَجْلِ تَشْرِيفِهِ عَنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْحَادِثِ فِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِصِفَةٍ لَمْ يَرِدِ الْإِذْنُ بِهَا.
قَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآن: ذَهَبَ الْأَشْعَرِيَّةُ إِلَى امْتِنَاعِ أَنْ يُقَالَ: فِي الْقُرْآنِ سَجْعٌ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ السَّجْعَ هُوَ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ نَفْسُهُ، ثُمَّ يُحَالُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالْفَوَاصِلَ الَّتِي تَتْبَعُ الْمَعَانِيَ، وَلَا تَكُونُ مَقْصُودَةً فِي نَفْسِهَا.
قَالَ: وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْفَوَاصِلُ بَلَاغَةً وَالسَّجْعُ عَيْبًا.
وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ.
قَالَ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ الْأَشَاعِرَةِ إِلَى إِثْبَاتِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبِينُ بِهِ فَضْلُ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّفَاضُلُ فِي الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ كَالْجِنَاسِ وَالِالْتِفَاتِ وَنَحْوِهِمَا.
قَالَ: وَأَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ هَارُونَ، لِمَكَانِ السَّجْعِ قِيلَ فِي مَوْضِع: {هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70]، وَلَمَّا كَانَتِ الْفَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ قِيلَ: {مُوسَى وَهَارُونَ} [الشُّعَرَاء: 48].
قَالُوا: وَهَذَا يُفَارِقُ أَمْرَ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْخِطَابِ إِلَّا مَقْصُودًا إِلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ كَانَ دُونَ الْقَدْرِ الَّذِي نُسَمِّيهِ شِعْرًا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِمَّا يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مِنَ الْمُفْحِمِ، كَمَا يَتَّفِقُ وَجُودُهُ مِنَ الشَّاعِرِ. وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ السَّجْعِ فَهُوَ كَثِيرٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ.
وَبَنَوُا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَحْدِيدِ مَعْنَى السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ.
فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَة: هُوَ مُوَالَاةُ الْكَلَامِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سَجَعَتِ الْحَمَامَةُ مَعْنَاهُ: رَدَّدَتْ صَوْتَهَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ سَجْعًا لَكَانَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ إِعْجَازٌ.
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ سَجْعٌ مُعْجِزٌ لَجَازَ أَنْ يَقُولُوا: شِعْرٌ مُعْجِزٌ. وَكَيْفَ وَالسَّجْعُ مِمَّا كَانَ تَأْلَفُهُ الْكُهَّانُ مِنَ الْعَرَبِ.
وَنَفْيُهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَجْدَرُ بِأَنْ يَكُونَ حُجَّةً مِنْ نَفْيِ الشِّعْرِ; لِأَنَّ الْكَهَانَةَ تُنَافِي النُّبُوَّاتِ بِخِلَافِ الشِّعْرِ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ» فَجَعَلَهُ مَذْمُومًا.
وَقَالَ: وَمَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ سَجْعٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُ عَلَى صُورَتِهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ هُوَ؛ لِأَنَّ السَّجْعَ يَتْبَعُ الْمَعْنَى فِيهِ اللَّفْظَ الَّذِي يُؤَدِّي السَّجْعَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا اتَّفَقَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَى السَّجْعِ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَقَعَ فِيهِ تَابِعًا لِلْمَعْنَى.
وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِمَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ بِأَلْفَاظِهِ الَّتِي تُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ مِنْهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُنْتَظِمًا دُونَ اللَّفْظِ. وَمَتَى ارْتَبَطَ الْمَعْنَى بِالسَّجْعِ كَانَ إِفَادَةُ السَّجْعِ كَإِفَادَةِ غَيْرِهِ، وَمَتَى انْتَظَمَ فِي الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ دُونَ السَّجْعِ كَانَ مُسْتَجْلَبًا لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ دُونَ تَصْحِيحِ الْمَعْنَى.
قَالَ: وَلِلسَّجْعِ مَنْهَجٌ مَحْفُوظٌ وَطَرِيقٌ مَضْبُوطٌ، مَنْ أَخَلَّ بِهِ وَقَعَ الْخَلَلُ فِي كَلَامِهِ، وَنُسِبَ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْفَصَاحَةِ، كَمَا أَنَّ الشَّاعِرَ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ كَانَ مُخْطِئًا، وَأَنْتَ تَرَى فَوَاصِلَ الْقُرْآنِ مُتَفَاوِتَةً، بَعْضُهَا مُتَدَانِي الْمَقَاطِعِ، وَبَعْضُهَا يَمْتَدُّ حَتَّى يَتَضَاعَفَ طُولُهُ عَلَيْهِ، وَتَرِدَ الْفَاصِلَةُ فِي ذَلِكَ الْوَزْنِ الْأَوَّلِ بَعْدَ كَلَامٍ كَثِيرٍ، وَهَذَا فِي السَّجْعِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَلَا مَحْمُودٍ.
قَالَ: وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَقْدِيمِ مُوسَى عَلَى هَارُونَ فِي مَوْضِعٍ، وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ لِمَكَانِ السَّجْعِ، وَتَسَاوِي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الْفَائِدَةُ فِيهِ إِعَادَةُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا، وَذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الصَّعْبِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْفَصَاحَةُ وَتَتَبَيَّنُ فِيهِ الْبَلَاغَةُ، وَلِهَذَا أُعِيدَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْقِصَصِ عَلَى تَرْتِيبَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مُبْتَدَأً بِهِ وَمُتَكَرِّرًا، وَلَوْ أَمْكَنَهُمُ الْمُعَارَضَةُ لَقَصَدُوا تِلْكَ الْقِصَّةَ، وَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ لَهُمْ تُؤَدِّي إِلَى تِلْكَ الْمَعَانِي وَنَحْوِهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَصْدِ- بِتَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَتَأْخِيرِهَا- إِظْهَارُ الْإِعْجَازِ دُونَ السَّجْعِ إِلَى أَنْ قَالَ:
فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُرُوفَ الْوَاقِعَةَ فِي الْفَوَاصِلِ مُتَنَاسِبَةٌ مَوْقِعَ النَّظَائِرِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْأَسْجَاعِ لَا تُخْرِجُهَا عَنْ حَدِّهَا، وَلَا تُدْخِلُهَا فِي بَابِ السَّجْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ يَذُمُّونَ كُلَّ سَجْعٍ خَرَجَ عَنِ اعْتِدَالِ الْأَجْزَاءِ، فَكَانَ بَعْضُ مَصَارِيعِهِ كَلِمَتَيْنِ وَبَعْضُهَا أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَصَاحَةً، بَلْ يَرَوْنَهُ عَجْزًا، فَلَوْ فَهِمُوا اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى السَّجْعِ لَقَالُوا: نَحْنُ نُعَارِضُهُ بِسَجْعٍ مُعْتَدِلٍ يَزِيدُ فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ.
وَنَقَلَ صَاحِبُ عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ عَنْهُ أَنَّهُ ذَهَبَ فِي الِانْتِصَارِ إِلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْفَوَاصِلِ سَجْعًا السَّجْعُ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ فِي سِرِّ الْفَصَاحَة: قَوْلُ الرُّمَّانِيّ: إِنَّ السَّجْعَ عَيْبٌ وَالْفَوَاصِلَ بَلَاغَةٌ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالسَّجْعِ مَا يَتْبَعُ الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مُتَكَلَّفٌ فَذَلِكَ بَلَاغَةٌ وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا تَقَعُ الْمَعَانِي تَابِعَةً لَهُ وَهُوَ مَقْصُودٌ مُتَكَلَّفٌ فَذَلِكَ عَيْبٌ، وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُهُ، وَأَظُنُّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى تَسْمِيَةِ جُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ فَوَاصَلَ، وَلَمْ يُسَمُّوا مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ سَجْعًا رَغْبَتَهُمْ فِي تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنِ الْوَصْفِ اللَّاحِقِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنِ الْكَهَنَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا غَرَضٌ فِي التَّسْمِيَةِ قَرِيبٌ، وَالْحَقِيقَةُ مَا قُلْنَاهُ.
قَالَ: وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ الْأَسْجَاعَ حُرُوفٌ مُتَمَاثِلَةٌ فِي مَقَاطِعِ الْفَوَاصِلِ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ أَنَّ السَّجْعَ مَحْمُودٌ فَهَلَّا وَرَدَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَسْجُوعًا؟ وَمَا الْوَجْهُ فِي وُرُودِ بَعْضِهِ مَسْجُوعًا وَبَعْضِهِ غَيْرَ مَسْجُوعٍ؟
قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَعَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ، وَكَانَ الْفَصِيحُ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ كُلُّهُ مَسْجُوعًا لِمَا فِيهِ مِنْ أَمَارَاتِ التَّكَلُّفِ وَالِاسْتِكْرَاهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَرِدْ كُلُّهُ مَسْجُوعًا جَرْيًا مِنْهُ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي اللَّطَافَةِ الْغَالِبَةِ أَوِ الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَمْ يَخْلُ مِنَ السَّجْعِ لِأَنَّهُ يَحْسُنُ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى الصِّفَةِ السَّابِقَةِ.
وَقَالَ ابْنُ النَّفِيس: يَكْفِي فِي حُسْنِ السَّجْعِ وُرُودُ الْقُرْآنِ بِهِ، قَالَ: وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ خُلُوُّهُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ قَدْ يَقْتَضِي الْمَقَامُ الِانْتِقَالَ إِلَى أَحْسَنَ مِنْهُ.
وَقَالَ حَازِمٌ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ تَقْطِيعَ الْكَلَامِ إِلَى مَقَادِيرَ مُتَنَاسِبَةِ الْأَطْرَافِ غَيْرِ مُتَقَارِبَةٍ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ إِلَّا مَا يَقَعُ إِلْمَامٌ بِهِ فِي النَّادِرِ مِنَ الْكَلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ التَّنَاسُبَ الْوَاقِعَ بِإِفْرَاغِ الْكَلَامِ فِي قَالَبِ التَّفْقِيهِ وَتَحْلِيَتِهَا بِمُنَاسَبَاتِ الْمَقَاطِعِ أَكِيدٌ جِدًّا.
وَمِنْهُمْ- وَهُوَ الْوَسَطُ- مَنْ يَرَى أَنَّ السَّجْعَ وَإِنْ كَانَ زِينَةً لِلْكَلَامِ فَقَدْ يَدْعُو إِلَى التَّكَلُّفِ، فَرَأَى أَلَّا يُسْتَعْمَلَ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ، وَأَلَّا يَخْلُوَ الْكَلَامُ مِنْهُ جُمْلَةً، وَأَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ مَا اجْتَلَبَهُ الْخَاطِرُ عَفْوًا بِلَا تَكَلُّفٍ.
قَالَ: وَكَيْفَ يُعَابُ السَّجْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِ الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَوَرَدَتِ الْفَوَاصِلُ فِيهِ بِإِزَاءِ وُرُودِ الْأَسْجَاعِ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِئْ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي الْكَلَامِ جَمِيعًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَمِرًّا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَلِمَا فِي الطَّبْعِ مِنَ الْمَلَلِ، وَلِأَنَّ الِافْتِنَانَ فِي ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ أَعْلَى مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى ضَرْبٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا وَرَدَتْ بَعْضُ آيِ الْقُرْآنِ مُتَمَاثِلَةَ الْمَقَاطِعِ، وَبَعْضُهَا غَيْرَ مُتَمَاثِلٍ.